راعي شما
๑ . . مراقب برزات قبيلة الشحوح. . ๑
في جبال وادي شعم أقصى شمال إمارة رأس الخيمة تقف الذكريات شامخة شاهدة على عراقة الماضي وحياة الأمس بجمالها ورونقها الذي ظلت محافظةً عليه رغم حالة التطور والحداثة التي طالت كل أرجاء الوطن.
نشد معكم الرحال اليوم إلى جبال منطقة وادي شعم برفقة علي زيد أحمد الهبّاش الشحي وزوجته مريم أحمد زيد لنعيش معهما ذكريات كفاحهما على سفوح الجبال حيث الحنين إلى أول منزل ألفه الآباء والأجداد، وصدق أبو تمام حين قال: نقِّل فؤادك حيثُ شئت من الهوى -ما الحُبُّ إلا للحبيب الأوّلِ-كم منزل في الأرضِ يألفُه الفتىوحنينُـه أبـداً لأوّلِ منزل- الحنين إلى ( الوعب ) -أبو زيد وأم زيد وبالرغم من إقامتهما مع أسرتهما وأبنائهما في حاضرة منطقة شعم إلا أنّ حنينهما الدائم إلى جبالها وتحديداً «الوعب».
وهو المكان الجبلي المرتفع الذي يزرعان فيه الحب والقمح استغلالاً لموسم هطول الأمطار في الشتاء يجعلهما يترددان يومياً على ذلك المكان سيراً على أقدامهما صباحاً مساءً وهما لا يأبهان بوعورة المنطقة لأنهما تربيا على تلك التضاريس الجبلية في حرها وبردها وصيفها وشتائها.
بانتظار المطر ويتحدث الزوجان عن ذكرياتهما المتجددة في «الوعب» الذي ارتقيناه معهما فيقولان: ننتظر سقوط المطر بفارغ الصبر حيث نقوم قبل قدومه بتنظيف «المسيلة» وهي مجرى الماء ثم نزرع بذوره ونحرثها باستخدام «الهيس» وفي بداية عملية البذر نراقب الوعب ونحرسه جيداً من الصباح وحتى المغرب كيلا تقوم الطيور بأكل البذور ونستمر على هذا المنوال في الحراسة والمراقبة حتى يطلع الحب بعد هطول المطر وعندما يأتي وقت الحصاد نُدخل الحب داخل «الينور» وهو عبارة عن مكان منبسط المساحة نقوم بدق الحب فيه وضربه بالعصي ثم نطحنه بعد ذلك باستخدام «الرحى».
مهنة الآباء
بالرغم من المشقة التي يتكبدها الهبّاش وزوجته إلا أنهما يشعران بمتعة لا تضاهيها أية متعة أثناء تنقلهما ما بين الصخور والجبال وصولاً إلى «الوعب» وهما يرفضان تماماً فكرة بيع حصاد القمح أو الاستفادة من مردوده المادي لأن هدفهما الوحيد هو إحياء ذكريات مهنة الآباء والأجداد والتي كانت تُعتبر إحدى وسائل الرزق في الزمن الماضي.
حيث يُستخدم البر في منافع عدة أهمها صناعة الخبز المحلي وبعض الأكلات الشعبية مثل «السخونة» و«الهريس»... ويحرص الزوجان على التصدق بجزء من حصاد الحب وتوزيعه على الأرحام والجيران والمحتاجين وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده). صدق الله العظيم.
أم زيد لا تكتفي بالاستمتاع بهذه المهنة فكل ما هو موجود بامتداد طريق «الوعب» ذهاباً وإياباً يُعيد إليها حنين الذكريات خاصة عندما تقوم باقتفاء أثر النحل وتراقب خليّته لتجني منه بعد طول انتظار عسلاً جبلياً صافياً يُعد الأجود من نوعه في المنطقة.
أجيال متعاقبة
خالد عبدالله سعيد علي يمّاع، كان مرافقنا في هذه الرحلة... وخالد أحد أبناء منطقة وادي شعم وهو شاب من جيل اليوم لكنّه يتسلّح بخبرة الآباء والأجداد فيحرص دائماً على تفقد «الوعوب» الأخرى سواء التي تعود ملكيتها إلى عائلته أو جيرانه وأبناء منطقته.
ويتحدث خالد عن صفة التآزر والتلاحم التي تسود بين أبناء وادي شعم حيث يتعاون الجميع مع بعضهم البعض في دق الحب وغيرها من الأمور الحياتية اليومية التي دأب الأهالي على إحيائها تخليداً لذكريات أصيلة تأصلت في نفوس الأبناء جيلاً بعد جيل.
الزمن الجميل
في الحقيقة لم يكن بوسعنا مغادرة جبال وادي شعم بسهولة لأنّ كل ما فيها من مناظر طبيعية تُسافر بأعيننا إلى حياة حُبلى بالذكريات والكفاح من عصر الزمن الجميل الذي يُعيد صياغة تاريخه أبو زيد وأم زيد على طريقتهما الخاصة وهما يحرسان ذكريات الماضي من فوق المرتفعات الجبلية، يزرعان الحَب ويحصدان حُب الجميع.