Follow along with the video below to see how to install our site as a web app on your home screen.
ملاحظة: This feature currently requires accessing the site using the built-in Safari browser.
تراكمت الردود ، وثقل الدّين ، وعسُر مكافأة الفضل بالمثل
فاعذروا أخاكم
أشكر كل مَن مر مِن هنا وترك شذاه يفوح في صفحتي المتواضعة ، ولكلٍ منكم تقييم خاص
أم أحمد قروية شيخة ، تعدّ الستين من عمرها في سرها ، ولكنها كسائر النساء لا تجاوز الثلاثين منه في جهرها .
تمرست بالشدائد فازدادت مِرّة ، وتصرفت في الأمور فاكتسبت خبرة ، واضطربت في المعاش على الزمن القُلّب فتعلمت بالتجربة
وتفلسفت بالسليقة ، فكلامها حِكم ، وحديثها أمثال ، ورأيها حُجة ، ومن أجل ذلك تميزت شخصيتها بين أترابها ، فأصبحت كالعرافة
في العهد القديم ، تستخيرها كل امرأة ، وتشتشيرها كل أسرة ، وهي إلى ذلك طويلة الأنف تدسه في كل منزل .
شرفاء الأذن ترهفها إلى كل مجلس ، فلا يقع في قريتها حادث إلا كان عندها منه علم .
رأيتها صباح يوم جالسةً في حقلها هي وزوجها ، فأغراني هدوء المكان ، ودِفء الجو ، وما سمعته من حال العجوز على أن أذهب إليها .
فحيّيتها وزوجَها ، ثم جلستُ إزاءهما على أعواد الذرة اليابسة ، وسألتها : كيف حالك يا أم أحمد ؟
فأجابت العجوز بلهجة تنم عن الرضا والغِبطة :
حالي خير حال والحمد لله ، العجين مخبوز ، والماء في الكوز ، فماذا أبغي فوق ذلك ؟ فقلت لها مستفزاً : وهل يقنع ابن آدم ؟
تبغين الأرض المملوكة ، والدار المشيدة ، والثوب الحرير ، والمركب الفاره ، واللحم في كل وجبة !
فعرفت ما في نفسي ، وقالت وهي ضاحكة : هبني يا بني أصبحت غنية ، عندي الآلاف من الحقول ، والمئات من العجول ، والقناطير من الذهب
والصناديق من الحُلي ، والدواليب من الثياب ، فهل أنال من كل ذلك غير ملء الجوف وستر الجسد . إن الحلاوة التي تجدها في قالب السكر
الصغير ، هي بعينها الحلاوة التي تجدها في قمع السكر الكبير ، وإن اللذة التي تذوقها في رطل اللحم الذي تشتريه
هي نفس اللذة التي يتذوقها الغني في الخروف الذي يذبحه ، وإن الدار الضيقة التي أضطرب فيها أنا وعيالي
تجمع من متاع النفس والجسم ما تجمعه الدار الواسعة التي يهرول فيها الغني وأهله ، فالمسألة مسألة قلة وكثرة
لا مسألة نعيم وبؤس ، وما دام القليل يكفيك من الكثير ، والصغير يغنيك عن الكبير فإن فضول العيش شُغل وهَمّ وفتنة
تستطرد أم أحمد قائلةً : نشأت كما تنشأ القرويات الفقيرات على التلول وبين الحقول .
آكل الجشب من الطعام وأستمرئه ، وأشرب الكدر من الماء وأستسيغه ، وألبس الخشن وأستلينه ، وأفترش المدر وأستوطئه ، وأعالج الصعب وأستسهله . رُزقت صحةً كصحة الظبية الشادن لم تجنح يوماً لراحة ولم تحتج أبداً إلى دواء ، ونفساً راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء ، فأنا أشارك أمي في عمل البيت ، وأعاون أبي في حرث الحقل . وفي الفترات القصيرة القليلة بين عمل وعمل ، يجدونني في الحارات أمرح أو في القنوات أصيد .
أذكر أني كنت ذات يوم جالسة على حافة الجدول المنساب أتغدى أنا وأختي الصغيرة على خوان من النجيل ، فرأيت ابنة الثري مالك الأرض وسيد الناس مقبلةً يقدمها كلبها الذئبي الضخم ، ويتبعها خادمها النوبي النحيل ، وفي يدها أداة صيد تطويها على قصبتها وتنشرها ، وابنة الثري صبيةٌ لم تجاوز العاشرة ، فهي في مثل سِنّي ، تقيم طول عامها في المدرسة بالمدينة ، فلا تُلمّ بالقرية إلا أياماً في أوائل الخريف .
أقبلت حتى وقفت بإزائي وحَيّت ، ثم ألقت أداة الصيد في الماء وجعلت تنظر إليها وتنظر إلي ، فدعوتُها إلى الطعام على عادتنا ، فشكرتْ واعتذرت ، ثم قالت وهي تبتسم : أتأكلين الحشيش ؟
فقلت لها : ليس هذا حشيشاً ، وإنما هو بقلة من أحرار البقول ، وأنا آكله ليخفف من ملوحة الجبن ويكسر من حرارة البصل . فقالت وهي تمطّ شفتيها الرقيقتين : ولكن اللحم خير منه !
فقلت لها : نعم ، اللحم خير منه ؛ ولكن موسمه لم يحن بعد .
فنظرت إلي نظرة المتعجب وقالت : موسمه ! وهل للحم موسم ؟
فأجبتها : نعم ، إن للحم مواسم ثلاثة لا نأكله إلا فيها : أول رمضان ، والعيد الصغير ، والعيد الكبير .
فقالت : وماذا تأكلون بقية العام ؟
فقلت : نأكل الحبوب والبقول واللبن الرائب والجبن وشيئاً من الدجاج . فبدت على قسماتها الجميلة مخايل الاندهاش ، وهمّت أن تقول شيئاً لولا أن رأت غماز سنارة الصيد يغطس ويعوم فشُغلت به ، وجذبت السنارة من الماء ، فإذا بها قد علقت سمكة بحجم كفها الصغيرة ، فاستطارها الفرح وهزها النجاح ، وأخرجت الكُلاّب من فم السمكة المضطربة وناولتها الخادم .
وأرادت أن تطعمه فلم تجد طُعماً ، فسألتني من أين يأتون بالثعابين الصغيرة التي تقدم إلى السمك بالسنارة ؟
فقلت لها وقد فهمت أنها تريد تلك الديدان الطويلة الحمر التي تعيش في الطين : أنا آتيك ببعضها ، ثم حفرتُ بجانب القناة وأخرجت لها من بطن الحفرة قطعة من الطين وأريتها كيف يجول في أحضانها الدود ، فابتهجت لذلك ابتهاجاً شديداً . ومن ذلك اليوم وصلني بها سبب من الأنس والعطف ، فكانت كلما زارت القرية افتقدتني ، فيرسلني إليها أهلي فخورين مسرورين ، فألقاها في حديقة القصر ، أو في باحة البستان ، فنعدوا على مخضوضر النبات ، أو نرتجح على فروع الشجر ، أو نصطاد على حواف الماء ، أو نستلقي على ظهور الحمر ، أو نتهادى على مماشي الحقول ، وقدرتي في كل ذلك فوق قدرتها ، وكلمتي أعلى من كلمتها . فانا أسرعها في العدو ، وأمهرها في اللعب ، وأكثرها في الصيد . أحملها على ظهري في اجتياز المواحل ، وآخذ بيدها في تخطي الحُفر ، وهي ترى ذلك كله فتعجب وتقول : كيف تستطيعين ما لا استطيع وأنتِ لا تطعمين اللحم ، ولاتأكلين الفاكهة ، ولا تذوقين شيئاً من الكعك ؟
فأقول لها : إن الله يعطينا القوة لأنه خلقنا للعمل ، ويعطيكم الثروة لأنه خلقكم للإنفاق !
* * *
وترعرعت سيدتي الثرية وشبّت ، فانقطعتْ عن حياة المدرسة واتصلت بحياة القرية ، فكنتُ عندها في منزلة الصديقة أقضي معها آخر النهار في حديقتها ، أو أول الليل في غرفتها ، أُطرفها بأخبار القرية ، وأُطربها بأناشيد الريف ، وأنا أراها كل يوم تفتر وتضعف وتذوي ، وهي تراني كل ليلة أنشط وأقوى وأشتَد ، فتعجب ، وتزداد حيرتها ، وتحاول أن تعرف الأسباب التي جعلتني قوية على الفاقة والحرمان ، وجعلتها ضعيفة على الغنى والرفاهية . فمن هذه المحاولات أنها طلبت مني أن آتيها خُفية بوجبة من الخبز والجبن والبقول ، وجئتُ بما طلبت . وكانت تنتظرني وحدها في الحديقة . فلما وضعتُ بين يديها ما حملْت ، نظرتْ إليه نظرة الهائب ، وأقبلت إليه إقبال المضطر ، واقتطعت من الرغيف لقمةً وغمستها في اللبن الرائب ووضعتها في فمها .
فلم تكد تذوقها حتى احمر وجهها ، واتسعت أحداقها ، كما تفعل الفتاة الساذجة إذا أكرهها الطبيب على جرعة من الدواء المر . ثم تحاملت على نفسها من الطعام بضع لقيمات ، ثم تقززت منه وقالت في اشمئزاز وتكرّه :
كيف تعيشون على هذا وإن مذاقه لأليم ، وطعمه غير مستساغ ؟
فقلت لها : يا سيدتي ، لقد أتيتكِ بطعامي ولم آتكِ بشهيتي ، ولو أتيتكِ بشهيتي لاحتجتِ أيضاً إلى معدتي !
واعتلت صحة الآنسة من سأم الراحة ومعاناة الترف ، فقلّبها أهلُها بين المصايف والمشاتي ، ونقلوها بين الجبال والأبحر ، وعرضوها على الطب حتى تَورّد وجهُها ونضر عودها ، وثاب إليها جسمها ، ثم زوجوها من أحد الأغنياء القارونيين فلم تجد عنده أكثر مما وجدت عند أبيها . نعم ، وجدت لذتين لم تجدهما من قبل : متعة الزوج وفرحة الولد ؛ ولكنهما لذتان شائعتان بين الإنسان والحيوان ، تجدهما كل زوجة تحب وكل والدة تلد .
وها هي ذي قد بلغت الغاية في الثراء الضخم والجاه العريض . أبوها غني ، وأخوها موسر ، وابنها من أهل الثراء ، وكل أولئك لم يعصمها من السكر والروماتزم والسِّمَن والترهل والأرق ، فلا تأكل إلا أقل الطعام ، ولا تنام إلا أيسر النوم ، ولا تتحرك إلا أقل الحركة ، وها أنا ذا لا أنفك على الحال التي كنتُ عليها : أبي فقير ، وزوجي ضرير ، وابني أجير ، ومع ذلك لا أزال شابةً على رغم السنين ، قويةً على رغم العمل ، صحيحةً على رغم النّصب ، سعيدةً على رغم الفقر ، أُدير أسرتي ككل سيدة ، وأُصيب لذتي ككل حُرة ، وأرضى قسمتي ككل مسلمة . وما أظن أن سيدتي الثرية تكره أن أكون في ثروتها وأن تكون هي في صحتي ، أليس كذلك يا ولدي ؟
فقلتُ لها وأنا معجبٌ بمنطقها وبيانها : بلى كذلك يا أم أحمد ! وإن لله في ذلك حكمة ، إن صحة الفقراء تعويضٌ من ثروة الأغنياء ، وإن السعادة من عند الله ، يمنحها من يشاء ويمنعها من يشاء
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الأساسية لجعل هذا الموقع يعمل, وملفات تعريف الارتباط الاختيارية لتحسين تجربتك.